بين جدران الغرفة التي يغمرها الظلام وضوء من النور الخافت كانت (باسمة) أبنت العشرين ربيعاً جالسة في طاولتها الصغيرة بجانبها أوراق مبعثرة .. كانت غالبية الأوراق ممتلئة .. حيث كانت هاوية للكتابة .. منذ أن كان عمرها في السادسة عشره عاماً تحتفظ بها داخل صندوق صغير هو أغلى ممتلكاتها .. لم تكن تلك الكتابات سوا عبرات وآهات كتمتها داخل قلبها منذ تعرضها للحادثة .. كانت هي مجرد جروح تسطرها في صفحات بيضاء لتملأها بالسواد لم يكن لها أصدقاء سوء وحدتها فقد اعتادت على الجلوس بمفردها .. لشعورها بالنقص .. فهي كانت مقعدة في كرسي .. لا تستطيع القيام منه و لا تستطيع أن تتحرك بمفردها فقد أصيبت في حادث أدى إلى ما هي عليه .. ووفاة أمها وأخيها الذي يكبرها بعامين ..!! اعتادت الجلوس وحيدة دائماً وحتى في المدرسة .. و لم تكن تحب أن ترى أحد من قريباتها .. وحتى أقرب الناس لها ... أبيها..!! الذي كان هو الوحيد بالنسبة لها .. فالمنزل هادئ دائماً .. لا يوجد به سوى باسمة وأبيها الذي لا يجلس فيه إلا للنوم .. والخادمة التي ترافقها دائما للمدرسة .. بعد نهاية المرحلة الثانوية لها ... رغم تفوقها بدراستها .. لم تقبلها أي جامعة و لم تنظر لها أي عين رأفة ولا حنان ... ولكن باسمة رغم ألامها .. ومآسيها .. كان في قلبها إيمان كبير أصرت على تحدي نفسها .. ولكن لا تعلم كيف هو بداية الطريق ؟؟ فقد كان قلبها ممتلئ بالجروح التي لا تعرف لها داوي ؟ لكي تشفى منها وتتحدى الحياة .. ظلت في هذا الوضع عامان .. في ذات يوم أتت نوره خالتها والتي كانت تزورها بين فتره وأخرى ، اعتادت الجلوس قرب باسمة والتأمل فيها دون كلام .. لأن باسمة لم تكن تحب سوى السكوت والتأمل .. كانت نوره تتأمل أركان غرفتها دائماً .. ترى فيها الزهور الذابلة .. والهدوء الملون بالسواد .. نظرت ذات يوم إلى تلك الأوراق المبعثرة في الطاولة .. والسرير .. وبعضها مرمي على الأرض .. أخذتها وقامت بجمع بعضها .. وبدأت بقرأتها .. قرأت إحداها بدايتها .. أننـي فتاة العشرين .. في بداية مشواري بالحياة .. لم أرى يوماً جميلاً بالدنيا منذ اربعة أعوام .. أحسست بأن الدنيا لا تحبني .. أعيش حياة مريرة .. مليئة بالتحطيم .. أعانق الأسى يومي بأكمله .. لا ارغب في هذه الحياة .. فهي تكرهني .. وأنا لا أحبها .. لقد أخذت مني ..أاغلى ما أملك .. أمـي وأخي .. ومشاعر أبي ..!! كانت تلك الكلمات كالسكين في قلب الخالة .. نزلت دموع مليئة بالذنب تجاه ابنة أختها .. لم تكن تعلم ماذا تفعل تجاهها .. فقد أحست بالمسؤولية الكبرى تجاه البنت المحطمة .. ذهبت إلى منزلها .. واستشارت زوجها الذي كان يعمل محامي وأديب .. فـ له بعض المؤلفات البسيطة .. عندما علم بما يوجد بباسمة من موهبة بسيطة أحس أنه يمكن أن تنمو هذه الموهبة ولاسيما من فتاة تعيش المشاعر الحساسة والرقيقة .. فـ اقترح على زوجته أن تبدأ باسمة بتنمية موهبتها .. والكتابة في أحد المجلات .. لم تعلم نورة طريقة تجعلها توصل الفكره لباسمة .. والدمعة لم تفارق عينيها لتصارح قلبها يا اللـه ..!! لا أجد طريقه للكلام مع ابنة اختي .. كيف كانت أحاسيسي ؟؟ لم أطلب من ابنتاي يوماً للذهاب لأبنة خالتهم الوحيدة والمقعدة ، نعم بهذه الوريقات أحست الخالة بظلمها لابنة أختها .. لا تعلم من أي طريق تتجه كانت تتمنا لو الزمن يعود للوراء لتعرف مشاعر ابنة أختها منذ البداية .. أصبحت الخالة تتردد يومياً لـ باسمة .. وأصبحت بنتا نورة تذهبان إليها لم تكن باسمة تتقبل هذا التغير المفاجئ بخالتها .. ولكنها أصبحت أحياناً ترغم على الكلام .. بقول "نعم" أو "كلا" .. كانت ابنتا خالتها ياسمين وهند هما من أعادوا البسمة في جدران المنزل .. كانت ضحكاتهم تتعالا في ذلك المكان المظلم .. الذي ملأه الحزن ولكن السعادة لم تدخل قلب باسمة ، وفي ذات يوم نادت الخادمة لتصعدها إلى الغرفة .. صعدت لتكمل أوراقها ... أخذت ما بقي من الأوراق البيضاء لتملأها بسواد الحبر .. وسواد المشاعر .. بدأت بالكتابة .. لا أجد طعماً للسعاده في قلبي .. ولا فرحاً في فؤادي .. افتقدت حنان أمي .. !! بفراقها وحنان أبي .. !! بوجوده أشعر بأن الوحدة تآسرني .. ولا أجد من يكفلني ؟؟ أو يخرجني من سجني .. أصبحت الوحدة والهم رفيقي .. نعم .. هذه انا .. الفتاه الصغيرة .. محطمه ومكسورة .. آه.. كم انا مشتاقة لحضنك يا امي .. صعدت إليها نورة .. !! رأت الدموع تنزل من عينيها .. أخذتها في أحضانها يااااااااااااااااااه ..!! امــي .. احبـك .. قالتها باسمة من غير شعور لخالتها .. بكت .. وبكت خالتها .. استمرت تحضنها مدة طويلة .. لم يشعروا بالوقت .. إلا مع طرقات باب غرفة باسمة . هما ياسمين وهند .. هيا لقد أعددنا الطعام ... وقد صنعنا الأطباق من خيالنا .. وهي لذيذة كعادتنا دائماً .. ضحكت نورة .. وضحكت باسمة .. والدموع لازالت في عينيهما .. نعم لقد ضحكت باسمة .. الضحكة التي افتقدتها منذ سنين .. أنزلتها خالتها .. وجلسوا يتحدثون وباسمة ضحكتها لم تفارق شفتيها .. بعد أن علمت الخالة بأن أبو باسمة لا يأتي إلا متأخراً رغبت في أن تقضي معها بعض الأيام .. نامت نوره برفقة باسمة .. وذات يوم .. في تمام الساعه الرابعة فجراً .. دق جرس الهاتف .. المتحدث المستشفى .. آآلو نعم أنه منزله .. ماذا ؟ أغلقت نورة الهاتف مفجوعة .. وباسمة لم تعلم ماذا حدث .. سألتها .. قالت اطمئني يا ابنتي ..أنها ياسمين تقول لي بأن أبيها سيسافر في الصباح.. خرجت نوره من البيت للذهاب إلى المستشفى .. نعم أنه والد باسمة أصيب بحادث انقلاب ... وهاهو يقظيها بالمستشفى .. سألت نورة الطبيب فقال لها انه بحالة حرجة جداً .. عادت نورة إلى باسمة .. تسألت عن رجوع خالتها السريع ؟ فقالت لها .. لا لن يسافر .. لقد تأجلت الرحلة .. أكملت باسمة نومها ونورة لم تستطيع .. و في تمام الساعة التاسعة دق جرس الهاتف .. نعم لقد توفي أبو باسمة .. صرخت نوره .. بكت .. لم تعلم باسمة ماذا دها خالتها .. لم تستطيع نوره السيطرة على مشاعرها .. ولا تعلم كيف تخبر باسمة .. سكتت قليلاً .. ثم قالت : باسمة ابنتي .. أنتي إنسانه مؤمنه وتعلمين قضاء ربك .. ظلت باسمة تنظر إلى عمتها بصمت وانصات لكلامها .. قالتلها .. لقد توفا والدك .. استمرت باسمة في صمتها .. نزلت دموعها .. لم ترى نوره انهيار باسمة .. لا تخافي يا خالتي .. لم أشعر يوماً بحنان ودفء مشاعر أبي لكي أبكي عليه .. لقد علمني القسوة عليه حتى وهو في سرير الموت .. لم أراه يقول لي ابنتي .. لقد تبلد أحساسي بمحبتي له .. انتهت أيام العزاء ... بعدها بفترة .. أتى المحامي ....أخبر باسمة أن أبيها قبيل الحادث بيوم واحد فقد كان قد انتهى من كتابة جميع ممتلكاته لـ ابنته .. وقد أخبر المحامي بأنه سيتفرغ لـ معالجة ابنته في الخارج .. بكت باسمة بحرقة .. شعرت بأن أبيها فعلاً لم ينساها ... لكن أيقنت بأن الأيام لا تعود .. وأنها إرادة ربها .. أن تبقى وحيدة .. لكن خالتها هي من جعل الأمل يسكن في قلبها .. فـ قد اصبحت دائماً تجلس معها .. وأصبحت لا تفارقها ابداً .. جعلت البسمة ترتسمها ... سألتها ذات مره خالتها عن موهبتها لماذا لا تنشرها .. لتأخذ رأي الناس فيها .. أعجبت باسمة بالفكرة بعد كثير من التردد .. فقام زوج خالتها بمساعدتها .. فقد كان صاحب معرفه بـ رئيس تحرير إحدى المجلات .. فبدأت بتجميع أوراقها ونشرها شيئاً فشيئا .. وقام بدعمها كثير من الناس .. وقامت بكتابة عدت خواطر رائعة .... فقد كتبت خواطر ملونة عديدة .. وأصبحت باسمة كاتبه مشهورة .. وبفضل دعم خالتها و زوجها .. أصدر لها أول كتاب وكان عنوانه "أوراق مبعثره " .. وقد بدأت مقدمته .. نعم انا .. أنا هي باسمة .. التي لم تعانق البسمة شفتيها .. إلا بعد أن عايشت الحياة من جديد كنت فتاة منكسرة .. ورده تذبل يوماً بعد يوم .. قبل أن تنضج كاملة .. تحطمت أحاسيسي بالفرح .. وأصبح السواد هو لون حياتي الوحيد .. لم أكن أملك حب لهذه الحياة .. ولم أشعر بأنني سوف أصبح محط اهتمام للناس .. !! كانت تطلعاتي للمستقبل بأنني سوف أنام إلى الأبد .. وأدفن بين أوراقي المبعثرة .. لم أكن أعلم أنها أوراق سوف تجلب لي الفرح والسعادة .. أنها أوراق ستجلب حب الناس لي .. وحبي لهم .. !! أختكم العائد لها الفرح من جديد .. " بـاسـمـة " °¨¨¨¤¦¤¨¨¨°°¨¨¨¤¦¤¨¨¨°°¨¨¨¤¦¤¨¨¨° " أتـمـنـا تكون القصة نالت على رضاكم